Wednesday 20 August 2008

انتخابات المحافظات الكلمة السحرية لتقسيم العراق

الباحث :اللواء الركن مهند العزاوي- طالب دكتوراه في الإعلام والاستراتيجية الأمريكي


خطة أمريكية إسرائيلية تم وضع تفاصيلها وتسربت إلى الإتحاد الأوربي عام 2000 تهدف إلى تغيير الخارطة السياسية والحدودية في منطقة الشرق الوسط وإزالة دولة العراق من الكيان العربي.

تشير مذكرة الأمن القومي 200" (NSM 200) استبدال الدول القائمة بدويلات أصغر تتسم بأحادية الطابع العرقي، وتحييد هذه الدويلات بجعل كل واحدة منها ضد الأخرى على نحو مستمر.

تمارس الإدارة الأمريكية الحالية منذ اشهر سياسة التهدئة على مختلف الأصعدة وفي النطاق الجيو استراتيجي الدولي ومناطق الاهتمام, وبدت ملامح التهدئة تلوح بالأفق السياسي والعسكري أيضا, في لبنان, فلسطين, العراق, والشرق الأدنى والخليج, وبما أن محور الصراع الانتخابي هو قضية العراق والدور الأمريكي في الهيمنة على العالم العربي والعداء للسلام , هرعت الدوائر السياسية والإعلامية والمخابراتية إلى كسب المعركة الإعلامية عبر وسائلها المعروفة بالتضليل والكذب والخداع والتدليس والإيحاء عبر الأثير إلى الرأي العام الأمريكي والعربي من خلال الخطابات التي تحتوي في ثناياها عبارات الخطاب المزدوج(يقترح في اغلب الأحيان قضية نبيلة لتبرير الموت والدمار) المدعوم من قبل وسائل الإعلام (الميديا البيضاء) وعبر مكتب الاتصالات الأمريكي الذي يعمل لتحسين صورة أمريكا لدى العرب والمسلمين لما اقترفت من مجازر ضدهم وانتهاك خصوصية وقيم تلك الشعوب وترويج الدعاية البيضاء مرورا بالرمادية وتنتهي بالسوداء( الجزرة والعصا), ويجري في العراق اليوم مارثون انتخاب المحافظات طلقة الرحمة في الجسد العراقي وتفتيته وتقسيمه إلى دويلات , ومحميات عشائرية وحزبية وفئوية أو مذهبية طائفية وعرقية " أشارت مذكرة الأمن القومي 200" (NSM 200)ومن بين ما تقوم عليه الفكرة : استبدال الدول القائمة بدويلات أصغر تتسم بأحادية الطابع العرقي، وتحييد هذه الدويلات بجعل كل واحدة منها ضد الأخرى على نحو مستمر؟" كما نشر موقع المؤتمر الوطني بزعامة ألجلبي في اكتوبر2000خبر مفاده أن مصدرا عسكريا امريكيا رفيع المستوى كشف في بروكسيل عن" خطة أمريكية إسرائيلية" تم وضع تفاصيلها وتسربت إلى الإتحاد الأوربي تهدف إلى تغيير الخارطة السياسية والحدودية في منطقة الشرق الوسط وإزالة دولة العراق من الكيان العربي وهي الخطة التي وصفها المصدر بالخطيرة مؤكدا معارضة الاتحاد الأوربي لها ليس فقط لتهديد المصالح الأوربية في المنطقة فحسب , بل لتسببها في خلق بؤر صراع جديدة في المنطقة وحروب أهلية داخل العراق وبين العراق الجديد ودول الجوار,لقد أكملت المنظومة الاستراتيجية الأمريكية نصابها الزمني في العراق وإنجاز المراحل التمهيدية لتقسيم العراق الناعم والقاسي والشامل أفقي وعامودي واستطاعت إن تستخدم وسائل مختلفة ومتنوعة وأهمها تأثيرا (سياسة الجس والاحتواء والتطبيع) واستخدمت ((سياسة إغداق الأموال على جميع المفاصل المتعاونة والمجندة حديثا (البيع السياسي) وشراء الذمم والشخصيات المختلفة لتمرير مخططاتها ومقرراتها)) وبلغ عدد القوائم الانتخابية التي سجلت لدى ما يسمى مفوضية الانتخابات لحد الآن في بغداد أكثر من 600قائمة يتصدر عدد كبير من تلك القوائم راكبو الموجة الجدد من الانتهازيين والمزدوج الولاء والمرتبطين بالسياسيين الجدد (منظومة الاحتلال الأولى) بعد أن كشفت أجنداتهم التي لا تصلح حتى للاستهلاك الحيواني. واستخدمت أيضا الأسلوب العسكري المقتبس من الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية القمعية في معالجة ضربات المقاومة العراقية ,عبر خطتها الخمسية ونحن قد غادرنا السنة الخامسة وأشار لها وزير الدفاع الأمريكي غيتس بان الشوط قد انتهى وأشار قائد القوات في العراق السابق "بترايوس" لنفس المحور الذي يؤمن جوانبه ويحكم السيطرة عليه ليذهب إلى منصبه الجديد قائد القيادة المركزية في الشرق الأوسط والخليج ويستعد لسحب عدد من القوات بعد أكمال استراتيجية التقسيم الشامل وهناك أربعة استحقاقات أمريكية مطلوب تحقيقها في العراق بعد خمسة سنوات دامية استخدمت فيه الإدارة الأمريكية استراتيجيات وتكتيكات وأساليب غير نمطية تتواءم مع واقع العراق والسعي لتدجينه وترويضه وكبح جماح ردة فعله المناهضة للاحتلال واستراتيجيات المقاومة العراقية القطب الرئيسي في الصراع العراقي الأمريكي كما استخدمت مؤخرا أعلى مراحل الخداع والتظليل والكذب ومناورات إعلامية تعتمد في ترويجها على حملات عسكرية للإيحاء بتطبيع الأمور وتوجه العراقيين لدعم العملية السياسية الحالية وتهافت الكتل المنسحبة للعودة وامتناع الحكومة عن قبولهم وضرب ما يسمى استحقاقاتهم الانتخابية الديموقراطية عرض الحائط كنوع من أنواع القوة والمركزية وقوة القرار وغيرها من وسائل التظليل والتلاعب الإعلامي واللف والدوران, و تعافت عودة المهجرين إلى المجهول الدامي والمستقبل الحجري, وتوظيفه سياسيا وإعلاميا, كمكسب استراتيجي , وخصوصا أن زيارات عدد من المسئولين في الدول العربية إلى العراق ,تؤكد أن العراق اغتيل بطعنة غادرة من أشقائه إرضاء للعم سام.

قضية كركوك:- هذه القضية لها أبعاد مختلفة أبرزها سعي مسعود البر زاني ضم كركوك لتوسيع نفوذه وسطوته أكثر من غريمه جلال الطالباني وسعي مشترك لحلم انفصالي بتأسيس دولة كردستان واحد مقومات الدولة وجود ثروات طبيعية لتسهل انفصالها كدولة وهناك استحقاقات وأطماع صهيونية حول نفط كركوك(طلب وزير البنية التحتية الإسرائيلي*يوسف باري تسكي*من الخبراء في وزارته أعداد تقرير موسع عن وضع خط أنابيب كركوك-حيفا لتقويم جدوى هذا الموضوع سياسيا وفنيا وكشفت تصريحات وزير البنية التحتية الإسرائيلية في الأسبوع الثاني من شهر نيسان2003 حول أحياء خط النفطي العراقي الموصل حيفا عن نوايا إسرائيل في الاستفادة من سيطرة الاحتلال الأمريكي على نفط العراق, وتؤكد تصريحات الوزير الإسرائيلي إن احد الأهداف الرئيسية للحرب هو سيطرة الولايات المتحدة على الثروات النفطية للعراق وبالتالي ستسمح لحليفتها إسرائيل من مشاركتها بالثروات لحل مشاكل الطاقة لديها خاصة إذا علمنا إن الإسرائيليين يستهلكون حوالي 250الف برميل نفط يوميا , ومعروف إن سعة خط نفط كركوك (ريمو تاليك) تصل الى70 مليون برميل سنويا بينما سعة خط كركوك حيفا اقل من ذلك بكثير وفق إمكانياته السابقة ولكن في حالة مد خطوط أنابيب أخرى ستكون له نفس السعة والأهمية, علما إن ذلك يتطلب استثمارات إسرائيلية تبلغ2مليار دولار أمريكي وكانت وزارة الطاقة الإسرائيلية أعدت تقرير أولي بخصوص صيانة خط أنابيب الموصل حيفا المتوقف منذ 56عام, إن حسابات إسرائيل الإقليمية منذ أعوام طويلة تقوم على تجزئة العراق إلى ثلاث أقاليم كما جاء بمشروع بإيدن لتقسيم العراق ولذلك تبعث بخبرائها العسكريين إلى شمال العراق وأصبحت إسرائيل قوية بدرجة اكبر من أي مرحلة سابقة)؟

تقسيم العراق محور استراتيجي ومطلب صهيوني
تقسيم العراق مطلب أمريكي صهيوني إقليمي غير عربي ملح وتتناوله الاستراتيجية الأمريكية التي لم تتغير في أساسياتها بل تطور وسائلها وتحدثها وتغير من اولوياتها فبالنسبة لمنظِّري "الفوضى الخلاقة" يجب سفك الدماء من أجل الوصول إلى نظام جديد في المناطق الغنية بالثروات. وهي فكرة تم تكريسها باعتبارها سياسة أمن قومي أمريكية من قبل مستشار الأمن القومي السابق هنري كيسنجر في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون. وقدم كيسنجر دراسة تم اعتمادها عام 1974 من قبل الإدارة الأمريكية بعنوان "مذكرة الأمن القومي 200" (NSM 200)ومن بين ما تقوم عليه الفكرة : استبدال الدول القائمة بدويلات أصغر تتسم بأحادية الطابع العرقي، وتحييد هذه الدويلات بجعل كل واحدة منها ضد الأخرى على نحو مستمر. وبعبارة أخرى، فالفكرة تتضمن تدمير الدول القائمة من أجل إنشاء كيانات ضعيفة يسهل توجيهها والتلاعب بثرواتها ومقدراتها.

استراتيجية - التقسيم الشامل

استراتيجية التقسيم الشامل لقد وثق بنودها الدستور العراقي المثير للجدل والريبة ليقسم العراق(تقسيما شاملا أفقيا وعموديا) إلى أقاليم*تقسيم عامودي* وجاء قانون المحافظات في الدستور*التقسيم الأفقي* ليرسخ تلك الإستراتيجية التي طبقت بشكل ناعم وهادئ بتطبيع مزمن واستخدمت دوائر التضليل واللف والدوران الدعائية الأمريكية عبر وسائلها المختلفة لترسخ انطباع واعتقاد لدى عدد من العراقيين أن السيطرة الجزئية والنفوذ والانفصال لكل محافظة أمر صحي وضروري في هذه الظروف مع شحنة عبارات الديمقراطية والحرية؟ بعد إن عجزت دوائر الاحتلال من أحكام سيطرتها العسكرية والسياسية على العراق طيلة الخمس سنوات الدامية الماضية واكتفت باستخدام حرب الأشباح لتمزق أوصال المدن العراقية ونسيج المجتمع العراقي, وتتهافت حاليا عدد من الكيانات المشتركة بالعملية السياسية والغير مشتركة , المليشيات , الصحوات , النخوات , مجالس الإنقاذ , اللجان الشعبية , جميع التشكيلات والمسميات للاشتراك بالمارثون الانتخابي لمجالس المحافظات القادم بعد أن هيأت له القواعد العسكرية والتضليلية المدلسة قانونيا لتنفيذه دون الأخذ بنظر الاعتبار أن هذا القانون سيجعل من كل محافظة دويلة مستقلة أو محمية حزبية أو عشائرية أو إقليم طائفي أو عرقي وما يجري في كركوك دليل واضح لا يقبل الشك. وإلغاء هوية العراق ليحتفظ المحتل بالمبادأة في كل مكان وينهب الثروات بشكل سهل وانسيابي وسنضطر لاحقا للحصول على تأشيرة دخول لأي محافظة أو للتنقل من العمارة إلى البصرة أو من الموصل إلى ديالى ومن أي محافظة وأخرى كما يجري الآن من إجراءات في محافظات شمال العراق تجاه الوافدين الأجانب من العراقيين أليهم كما تقول استمارات وبيانات الدخول إلى أربيل أو السليمانية أو دهوك أو حتى أحيانا كركوك ضمن محافظات الوطن العراقي الواحد؟؟ وبالتأكيد استطاعت الدوائر النفسية وألوية العمليات السيكولوجية والمخابراتية الأمريكية أن تجد مواطن الضعف في التركيبة الشخصية للمواطن العراق وتضغط عليها ضغطا متواصلا مكلف ودامي ومنه العسكري والأمني والسياسي والمعيشي والإعلامي منذ الاحتلال ولحد الآن وتعززهما بين الحين والأخر بالإغداق بأموال هائلة ووعود بالسلطة( الثراء والسلطة) عبرا دواتها وشخوصها الساعين ليكونوا رؤساء دويلات عمودية أو رؤساء دويلات أفقية في ظل استعمار أمريكي معاصر للعراق بمحاوره الأربع ليكون العراق 18 دويلة بدل العراق الموحد بموافقة ومباركة دولية وعربية وإقليمية ضمنية معلنة أو غير معلنة

سياسة التقسيم الناعم

منذ الأيام الأولى لاحتلال العراق مورست سياسية التقسيم الناعم وبشكل عجيب لم يحصل في أي بلد في العالم ولا يتفق مع أي عرف أو قانون أو شريعة أو هيكل تنظيمي اجتماعي أو ديموغرافي وجرى تقسيم مركب ديني عرقي أثني أجنبي لا يمت بصلة للعراق وهجين على موروثة الحضاري والتاريخي وعبر تاريخ المعاصر ولاشك يتواءم مع الأجندة الأمريصهيونية البريطانية الإيرانية( أقطاب التحالف والصراع على أرض العراق)؟ وشكل ما يسمى مجلس الحكم على هذا الشكل ليؤسس ميدان الصراع الطائفي العرقي العشائري وإلغاء الهوية الوطنية الإسلامية والعربية للعراق, فقد قسم المجتمع العراقي إلى أعراق ومذاهب واثنيات وطوائف وعشائر واديان وهذا التوزيع العجيب الذي يرتكز على أحقاد وإطماع تستهدف المجتمع العراقي تمتد جذورها لقرون مضت( أحلام استعمارية بريطانية-حلم تلمودي صهيوني-نفوذ إقليمي إيراني-استعمار أمريكي حديث) ليعود بالعراق والمنطقة والعالم إلى قرن التاسع عشر*الإمبراطوريات الاستعمارية باستخدام القوة وتطبيق استراتيجية الاقتراب المباشر والحروب الإستباقية* التي تنتهجها الإدارة الأمريكية الحالية والمحافظين الجدد ,وعلى سبيل المثال لن يكن التقسيم ديني لأن العراق بلد إسلامي والإسلام دين الدولة الرسمي والغالبية العظمى من شعبه مسلم ولم يكن التقسيم عربي لأن غالبية الشعب العراقي عربي ومعه بقية القوميات الأخرى ولن يؤسس لجمع مذاهب وطوائف متراصة يجمعها الدين الإسلامي الحنيف, بل أسسوا لواجهات مختلفة في توجهاتها وعقائدها بما لا يتفق وأساسيات اعتناق الدين الإسلامي الحنيف أو القيم العربية الأصيلة أو العادات العراقية العريقة التي تكون نسيج المجتمع العراقي جوهرها لأستهداف السياسي والعسكري لتقسيم الوطن العراقي الواحد؟ وها نحن العراقيون اليوم أجناس مختلفة الأهواء والإنتمائات والعقائد والمذاهب والتوجهات والأفكار والدين ثم الوطن غائبون وخدمة الاحتلال هي المعيار الحالي للبقاء حيا كما يصوره الاحتلال ودعاته, وأفصح عنه الرئيس الأمريكي بوش قبل غزو واحتلال العراق كما وارده بيان قمة الغزاة التي عقده بوش مع رؤساء الحكومات البريطانية والأسبانية والبرتغالية في16/3/2003 (شيعة, سنة, أكراد, تركمان, آشوريين, كلدان أي أصبح العراق مجموعة مذاهب وطوائف وأعراق وليس شعب موحد ووطن موحد عبر آلاف السنين وهذه الثقافة الاحتلالية الاستعمارية هجينة على نسيجة ومجتمعه ولكن؟

سياسة التقسيم القاسي

مورست سياسة التقسيم القاسي في العراق منذ الأيام الأولى للاحتلال وحسب التكتيك الهادئ في الاستراتيجية الأمريكية ومحورة الجهد وتبويب الواجهات المتناحرة مع ممارسة كافة أنواع الكذب والتضليل واستنزاف القدرات والموارد البشرية والمادية, وتنتهج هذه الاستراتيجية الأسلوب العسكري ألقسري( الرد الخشن أو القاسي) الذي يصل إلى احد اكبر وأقوى من الأحكام العرفية والذي اتصف باستخدامها بشكل واسع وبدون تردد أو الخوف من المسائلة القانونية قائد القوات الأمريكية السابق "بترايوس" مستندا على نظريات مكافحة التمرد التي تدرس في كلية الحرب الأمريكية والتي أضافت تلك الجرائم والمجازر بحق الشعب العراقي المتكررة واليومية إلى رصيده في الإدارة الحالية عنصر تفوق ونجاح؟؟ وكما نرى اليوم مدن العراق عبارة عن معسكرات بحدود جغرافية محددة وبنوع ديموغرافي معين ومحاطة بقوالب وأسوار كونكريتية ديمقراطية تدل على الحرية والتحرير(اكبر بلد مستهلك للاسمنت والحديد هو العراق لبناء السجون الكونكريتية في مناطق بغداد مما زاد من سعره العالمي ومن المستفيد من هذه التجارة؟؟) لها مدخل واحد ومخرج والجميع يتلقى نيران الأسلحة الأمريكية والقمع والاعتقالات العشوائية ليعبروا العراقيين عن فرحتهم بهذه الديمقراطية والحرية والتحرير كما سمعنا عنها في الشعارات الأمريكية التي سبقت الحرب ضد العراق. القادم اخطر وان تقسيم العراق إلى ثمان عشر دويلة مفتاحهم السحري قانون الانتخابات, لما فيه من أبعاد ومرتكزات وملامح تقسيم واضحة المعالم مهما حاولت دوائر الدعاية الأمريكية من تعتيمها وتضليل سالكيها؟؟؟؟

Saturday 16 August 2008

تكاليف الحرب الأمريكية في العراق

صدر للباحثين الاقتصاديين جوزيف ستيغليتز، الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد، وليندا بيلمس المحاضرة في جامعة هارفارد، كتاب بعنوان "حرب أل3 تريليونات دولار"، في آذار 2008

مركز صقر للدراسات العسكرية والأمنية والإستراتيجية-قسم الوثائق المترجمة

لم تخطيء إدارة بوش حساباتها بشأن منافع حربها على العراق فحسب، بل أخطأت أيضا بشأن الكلف الباهظة لهذه الحرب التي مضى عليها خمس سنوات. وبدلاً من توقعات الرئيس بوش ومستشاريه بأن تكون حرباً سريعة وغير مكلفة، فقد أصبحت ثاني أطول حرب تخوضها أمريكا. وتشير تقديرات باحثين اقتصاديين مرموقين في الولايات المتحدة إلى أن تأثيرها على الاقتصاد الأمريكي فاق كل التوقعات، وتقدر كلفة ما تكبده حتى الآن 3 تريليونات دولار (أي 3 آلاف مليار دولار). ويتوقع هؤلاء الباحثين أيضا إن تخلّف الحرب آثاراً وخيمة على مستقبل الاقتصاد الأمريكي، وعلى مدى عقود، وإن كانت بعض المؤشرات إلى ذلك بدأت تطفو على السطح في الفترة الأخيرة مقترنة ببدايات مرحلة ركود اقتصادي يشبه في بعض سماته "الركود الكبير" في أواخر عشرينات القرن الماضي.

بالنسبة إلى العراقيين، تكتسب دراسة تأثير الحرب على الاقتصاد الأمريكي أهمية خاصة لارتباط ذلك على نحو وثيق بخطط صناع القرار في واشنطن وسياسة الإدارة الحالية (والمقبلة) تجاه الملف العراقي، والاحتمالات التي تكتنف مسارها، بما في ذلك مسألة الوجود العسكري الأمريكي، البعيد المدى والمفتوح، في العراق والسيطرة على ثرواته النفطية الهائلة.

فمن جهة، سيكون من السذاجة الاعتقاد بأن الولايات المتحدة، وبالأخص الاتجاهات اليمينية المتطرفة في المؤسسة الحاكمة والمجمع الصناعي العسكري، ستتخلى بسهولة عن الأهداف التي رسمتها للحرب في العراق ومنطقة الشرق الأوسط، في إطار استراتيجيتها للأمن القومي على الصعيد العالمي، خصوصاً بعد كل ما تكبدته من "خسائر" اقتصادية وسياسية، وفي الأرواح، خلال السنوات الخمس الماضية. يضاف إلى ذلك، توقع احتدام الصراع والتنافس على مصادر الطاقة، وبالأخص النفط، بين أمريكا ومنافسيها القدامى والجدد، بالأخص في أوروبا وآسيا (الصين والهند)، وما يعنيه ذلك بالنسبة إلى احتياطي النفط الهائل في العراق الذي يحتل المرتبة الثانية عالمياً.

من جهة أخرى، يمكن للأعباء المتزايدة على الاقتصاد الأمريكي جراء الحرب واستمرار الوجود العسكري في العراق، إلى جانب تعمق ألازمة الاقتصادية الراهنة، أن تعزز مواقع الأوساط السياسية في أمريكا التي تفتش عن مخرج من المأزق العراقي، والسعي إلى بدائل لسياسات المحافظين الجدد الأحادية على الصعيد الدولي، التي أضعفت موقع الولايات المتحدة ونفوذها وهيبتها وأدت إلى تسريع وتيرة الانتقال من نظام القطب الواحد، الأمريكي، إلى ما سيصبح نظاماً متعدد الأقطاب على صعيد عالمي.

ومما له دلالة كبيرة في هذا الشأن أن الحرب في العراق وآثارها على الاقتصاد الأمريكي تستقطب اهتماماً متزايداً في الجدل الدائر حالياً في حملة الانتخابات التمهيدية في الولايات المتحدة، خصوصاً بين المرشحين الرئاسيين للحزب الديمقراطي. ويمكن أن تبرز هذه القضية بقوة اكبر في الشوط الأخير من الحملة الانتخابية لكلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي، في الفترة بعد آب (أغسطس) المقبل والى موعد الانتخابات الرئاسية في نهاية 2008. وعلى رغم انه لا يتوقع حدوث تغييرات سريعة في السياسة الأمريكية تجاه العراق في حال فوز الديمقراطيين، لكن مثل هذا التغيير سيؤثر بقوة على اتجاهات هذه السياسة على المدى المتوسط، ويفتح الباب على مصراعيه لاحتمالات عدة.

وهو ما يعني في المقابل، بالنسبة إلى العراق والعراقيين تحديداً، إتاحة فرصة او فرص ثمينة للتعجيل بإنهاء الوجود العسكري الأمريكي، عبر فرض جدول زمني للانسحاب مدعوم بقرار دولي، وانتزاع السيادة الوطنية الكاملة للعراق واستقلال قراره السياسي والاقتصادي. ولا جدال في أن تحقيق هذا الهدف الحاسم يتطلب تحقيق إجماع وطني يستند على حركة شعبية ذات مشروع وطني، ديمقراطي موضوعياً، يتخطى الانقسامات الطائفية والقومية والفئوية، ويشكل بحد ذاته شرطاً ملازماً لاستعادة الوحدة الوطنية وإرساء مقومات الدولة المدنية الديمقراطية في العراق.

كلفة العمليات العسكرية المباشرة

تشير أحدث دراسة للباحثين جوزيف ستيغليتز، البروفسور في جامعة كولومبيا والحائز على جائزة نوبل للاقتصاد (2001)، وليندا بيلمس المحاضرة في السياسة العامة في جامعة هارفارد (*)، إلى أن كلفة العمليات العسكرية الأمريكية المباشرة وهي لا تتضمن حتى الكلف البعيدة المدى مثل رعاية قدامى المحاربين المصابين تزيد على كلفة حرب فيتنام، التي استمرت 12 سنة، وتبلغ أكثر من ضعفي كلفة الحرب الكورية.

وحتى في أحسن السيناريوهات المحتملة، يتوقع إن تبلغ هذه الكلفة عشرة إضعاف ما كلفته حرب الخليج الأولى، وتزيد بنسبة الثلث تقريباً على كلفة حرب فيتنام، وتبلغ ضعف كلفة الحرب العالمية الأولى. والحرب الوحيدة في تاريخ أمريكا التي كلفت أكثر منها هي الحرب العالمية الثانية، عندما خاض 16،3 مليون جندي أمريكي القتال على مدى أربع سنوات، وبلغت كلفتها الإجمالية (بقيمة الدولار في 2007، وبعد أخذ معدل التضخم بالاعتبار) حوالي 5 تريليونات دولار (أي 5 آلاف مليار دولار). وفي تلك الحرب، عندما شاركت القوات المسلحة الأمريكية كلها تقريباً في القتال ضد الألمان واليابانيين، كانت الكلفة لكل جندي اقل من 100 ألف دولار (بقيمة الدولار في 2007). بالمقارنة مع ذلك، تصل كلفة الحرب في العراق إلى 400 ألف دولار لكل جندي.

ولم يتحسس الأمريكيون بعد هذه الكلف. فالكلفة بالدم دفعها الجنود المتطوعون ومتعاقدون جرى استئجارهم. أما الكلفة المالية فقد جرى تمويلها كلياً بالاقتراض. ولم تجر زيادة الضرائب لتمويلها، بل جرى في الواقع خفض الضرائب على الأغنياء. ويعطي العجز في الموازنة الأمريكية الانطباع بأنه يمكن تعطيل فعل قوانين الاقتصاد، وان بالإمكان الاستمرار، عبر زيادة العجز، بتمويل الإنفاق على الحرب والحاجات الاجتماعية على السواء. لكن هذه القوانين لا يمكن أن تلغى. وتبقى كلف الحرب حقيقية حتى إذا جرى تأجيل استحقاقاتها إلى جيل آخر.

وقد ارتفع الدين القومي للولايات المتحدة بحوالي 2،5 تريليون دولار منذ بدء الحرب، ويرجع 1 تريليون دولار منه بشكل مباشر إلى الحرب بالذات. ويستمر هذا الرقم بالارتفاع، وتشير التقديرات إلى انه بحلول 2017 سيرتفع الدين القومي، بسبب الحرب وحدها، بحوالي 2 تريليون دولار.

تقديرات عشية الحرب

شهدت إدارة بوش عشية الحرب نقاشات حول الكلف المحتملة. وقدّر لاري ليندسي، المستشار الاقتصادي للرئيس الأمريكي ورئيس المجلس الاقتصادي الوطني، أنها قد تصل إلى 200 مليار دولار. لكن هذا الرقم تعرض إلى الاستهانة به من قبل وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد الذي وصفه بأنه "هراء". واعتبر نائبه، بول ولفويتز، أن عملية إعادة الأعمار في مرحلة ما بعد الحرب يمكن أن تمول من عائدات النفط العراقية التي سترتفع. وقدم ميتش دانييل، مدير مكتب الإدارة والموازنة، ورامسفيلد تقديراً لكلف الحرب يتراوح بين 50 و60 مليار دولار! واعتبرا أن جزءاً منها ستموله بلدان أخرى. (إذا أخذنا بالاعتبار معدل التضخم، بقيمة الدولار في 2007، فان هذه الكلفة التقديرية ستتراوح بين 57 و69 مليار دولار). لكن هذا المبلغ أصبح ينفق كل ثلاثة اشهر!

وتجدر الإشارة إلى انه حتى لاري ليندسي، بعدما لفت إلى أن الحرب يمكن إن تكلف 200 مليار دولار، أضاف قائلاً: "سيكون أنجاز الحرب بنجاح شيئاً نافعاً للاقتصاد". وتكشف مراجعة تقديرات ليندسي الآن انه قلل بشكل كبير من تقدير كلف الحرب ذاتها وأيضا كلفتها بالنسبة إلى الاقتصاد. وإذا أقرّ الكونغرس الأمريكي تخصيص بقية الميزانية التكميلية للحرب التي تبلغ 200 مليار دولار للسنة المالية 2008، يكون الكونغرس قد خصص أكثر من 845 مليار دولار للعمليات العسكرية، وإعادة الأعمار، وكلف السفارة الأمريكية، وتعزيز الإجراءات الأمنية في القواعد الأمريكية، وبرامج المساعدات الأمريكية في العراق وأفغانستان.

ومع اقتراب السنة الخامسة للحرب من نهايتها، تشير التقديرات لكلفة العمليات العسكرية (أو ما يمكن أن يسمى بـ"الإنفاق الجاري") للسنة 2008 إلى أنها ستزيد على 12،5 مليار دولار شهرياً للعراق، وهي زيادة كبيرة بالمقارنة مع كلفتها في 2003 عندما بلغت 4،4 مليار دولار شهرياً. وإذا أضيفت الحرب في أفغانستان، فان الكلفة الكلية هي 16 مليار دولار شهرياً. ويعادل هذا المبلغ الموازنة السنوية للأمم المتحدة. ولا يشمل هذا الرقم أل500 مليار دولار التي تنفقها الولايات المتحدة بالفعل سنوياً على المصروفات المعتادة لوزارة الدفاع. كما انه لا يتضمن نفقات أخرى مخفية، مثل جمع المعلومات الاستخبارية، أو أموال ممتزجة بميزانيات وزارات أخرى.

أرقام رسمية.. وأرقام فعلية

أن الكلفة الإجمالية للحرب أعلى بكثير من الرقم الرسمي لان هناك كاف كثيرة لا تدخل ضمن حسابات الإدارة. على سبيل المثال، غالباً ما يقول مسئولون في الإدارة بأن أرواح الجنود لا تقدر بثمن. لكن من منظور الكلفة، تظهر هذه الأرواح "التي لا تقدر بثمن" على سجل حسابات للبنتاغون كمبلغ 500 ألف دولار فحسب، وهو ما يدفع كمساعدات وفاة وبوليصات تأمين على الحياة. وبعد أن بدأت الحرب، ارتفع هذا المبلغ من حوالي 12 ألف دولار إلى 100 ألف دولار (مساعدة الوفاة) ومن 250 ألف دولار إلى 400 ألف دولار (بوليصة التأمين على الحياة). لكن هذه المبالغ لا تمثل سوى جزء مما كانت عائلات القتلى ستتقاضاه لو أن الأفراد فقدوا أرواحهم في حوادث مرور. ففي مجالات مثل الصحة وضوابط السلامة تقدّر الحكومة الأمريكية قيمة حياة مواطن شاب في ذروة قدرته على كسب الأجر بما يزيد على 7 ملايين دولار، وهو اكبر بكثير من المبلغ الذي تدفعه المؤسسة العسكرية الأمريكية كمساعدات وفاة. وباستخدام هذا الرقم، تبلغ كلفة أل4 آلاف جندي أمريكي الذين قتلوا في العراق حوالي 28 مليار دولار.

كما أن الكلف التي يتحملها المجتمع جراء الحرب هي اكبر بكثير من الأرقام التي تظهر في موازنة الحكومة الأمريكية. واحد الأمثلة الأخرى على الكلف المخفية يكمن في فهم ما تعنيه الإصابات في صفوف الجنود الأمريكيين. فالإحصائيات التي تصدرها وزارة الدفاع عن الإصابات تركز على تلك التي تنجم عن عمل عدائي (قتالي)، وفقاً لما تحدده المؤسسة العسكرية. ولكن إذا أصيب جندي بجروح أو مات في حادث سيارة ليلاً، يوصف ذلك بأنه "ذو صلة بحادث غير قتالي"، حتى عندما يكون التنقل بالغ الخطورة بالنسبة إلى الجنود خلال النهار.

وفي الواقع، يحتفظ البنتاغون بنوعين من السجلات. الأول هو لائحة الإصابات الرسمية الموجودة على موقع وزارة الدفاع في الانترنت. أما الثاني، الذي يصعب العثور عليه، فان المعلومات التي يتضمنها لا تتوفر إلا في موقع آخر على الانترنت ويمكن الحصول عليها بموجب "قانون حرية المعلومات". وتبيّن هذه المعلومات ان العدد الكلي للجنود الذين جرحوا أو أصيبوا أو عانوا من المرض هو ضعف عدد المصابين بجروح في أعمال قتالية. وقد يجادل البعض بأن نسبة من هذه الإصابات التي تقع خارج ظروف القتال يمكن أن تحدث حتي إذا لم يكن الجنود متواجدين في العراق. لكن الدراسة الجديدة للباحثين الأمريكيين ستيغليتز وبيلمس كشفت أن غالبية هذه الإصابات والإمراض يمكن أن تربط بشكل مباشر بالخدمة العسكرية في الحرب.

الكلفة الإجمالية للحرب

وبالاستناد إلى المعطيات المتوفرة عن التمويل لحالات الطوارىء، والى السجلات المتعددة، والانتباه إلى التقديرات التي تقلل على نحو مزمن من الموارد المطلوبة لمواصلة الحرب، سعى الباحثان الأمريكيان إلى كشف الإنفاق الفعلي على الحرب، وما يرجح أن تنفقه الولايات المتحدة عليها في النهاية. والرقم الذي توصلا إليه هو أكثر من 3 تريليونات دولار (3 آلاف مليار دولار)، مع الإشارة إلى أن الحسابات التي أجرياها استندت على افتراضات محافظة. وهما يلفتان إلى أن هذا الرقم (3 تريليونات دولار) يميل إلى إن يكون اقل من الرقم الفعلي. كما يوضحان انه لا يمثل سوى كلفة الحرب بالنسبة إلى الولايات المتحدة، ولا يعكس الكلفة الهائلة التي تكبدها العراق أو بقية العالم?؟.

فاتورات سيستمر دفعها لعقود

كشفت تجربة حرب الخليج في 1991 أن حوالي 40 % في المئة من القوات الأمريكية التي بلغ عددها 700 ألف جندي (شاركوا في القتال لمدة شهر واحد) أصبحوا يستحقون تسلم مساعدات إعاقة (جسدية ونفسية)، ويدفع لهم أكثر من 4 مليارات دولار سنوياً من هذه المساعدات. لذا يمكن للمرء أن يتخيل ما ستكلفه الحرب الحالية، إذا استمرت أكثر من ست أو سبع سنوات، وإذا أخذنا بالاعتبار انه سيجري الزج بأكثر من مليوني جندي فيها.

وبينما كانت نسبة المصابين إلى القتلى في الحروب السابقة تبلغ 2،5 إلى 1، فان هذه النسبة في الحرب الحالية هي 7 إلى 1. ويرجع ارتفاع هذه النسبة في حرب العراق إلى منجزات الطب الحديث وتطور العلاج المقدم للمصابين من الجنود الأمريكيين. وإذا جرى تضمين أولئك الذي يتعين إجلاءهم طبياً بسبب ما يعتبر حوادث غير قتالية أو إمراض، فان النسبة تصبح 15 إلى 1. والكثير من الإصابات بليغة وتتطلب تقديم رعاية على مدى الحياة. وسيشكل ذلك عبئاً ثقيلاً على نظام الضمان الاجتماعي الأمريكي. وتبيّن التجربة المستخلصة من الحرب العالمية الثانية إن الإنفاق على رعاية قدامى المحاربين بلغ ذروته بعد انقضاء أكثر من أربعة عقود على انتهاء تلك الحرب.

الحرب وتأثيرها على سعر النفط

يثار جدل أحيانا حول وجود تأثير ايجابي للحروب على الاقتصاد، وهو فهم خاطىء نشأ من الدور الذي لعبته الحرب العالمية الثانية في مساعدة الولايات المتحدة على الخروج من الأزمة الاقتصادية الكبرى ("الركود الكبير"). لكن أصبح واضحاً أن الحرب في العراق لها تأثير سيء إلى حد كبير على الاقتصاد الأمريكي.

ويمكن تشخيص أربعة أصناف لتأثيرات الحرب على الاقتصاد الإجمالي للولايات المتحدة.

· الأول يتمثل بتأثير الحرب على أسعار النفط. إذ كان سعر برميل النفط اقل من 25 دولاراً قبل الحرب، بينما يزيد الآن على 100 دولار(تحديث وصل برميل النفط مايقارب150$ وهبط الى 130%). وقبل خمس سنوات، كانت الأسواق الآجلة تتوقع أن يصمد سعر أل25 دولار لعقد من السنين على الأقل. وبالرغم من توقع زيادة الطلب من الصين والهند، كان يفترض أن يلبي العرض هذه الزيادة. ومع توفر إمدادات كبيرة وكلفة استخراج واطئة في الشرق الأوسط، توقعت الأسواق أن يرتفع الإنتاج متمشياً مع الطلب. لكن الحرب غيّرت هذه المعادلة. واستندت حسابات الباحثين ستيغليتز وبيلمس للكلفة الإجمالية للحرب على تقديرات محافظة جداً لتأثيرها على سعر النفط (5 إلى 10 دولارات من الزيادة)، وعلى افتراض أن الزيادة الناجمة عنها ستستمر لفترة 7 إلى 8 سنوات فقط. وأوضح البروفسور ستيغليتز في شهادته أمام اللجنة الاقتصادية المشتركة في الكونغرس، في 28 شباط 2008، أن ذلك الافتراض كان "محافظاً بشكل غير واقعي" لأنه على سبيل المثال "تتوقع الأسواق الآجلة اليوم أن يبقى سعر النفط أعلى من 80 دولار طيلة العقد المقبل على الأقل". ومن شأن الأموال الإضافية التي تنفقها الولايات المتحدة لشراء النفط أن تخفض الدخل القومي.

· التأثير الثاني ينشأ من حقيقة أن الإنفاق على الحرب لا يحفز الاقتصاد الأمريكي على المدى القصير بقدر ما يفعله الإنفاق، مثلاً، على البنية النحتية أو التعليم الذي توجد حاجة ماسة إليه في الولايات المتحدة.

· التأثير الثالث هو أن الإنفاق على الحرب، بشكل مباشر وغير مباشر على السواء، عبر العجز المتزايد، يحجب الاستثمارات التي كانت ستزيد إنتاجية أمريكا في المستقبل.

· التأثير الرابع أدى ارتفاع الدين القومي الناجم عن الحرب الى اقتراض المزيد والمزيد من الأموال من خارج الولايات المتحدة، ما يجعلها الآن مدينة للآخرين أكثر بكثير مما كانت قبل خمس سنوات. وسيدفع الأمريكيون، والجيل القادم منهم، فائدة على هذا الدين. ولا يعني اقتراض المزيد بدلاً من دفع الفاتورات المستحقة سوى تأجيل دفع فاتورات الحرب. وسيؤدي دفع هذه الفاتورات إلى خفض مستوى معيشة الأمريكيين بالمقارنة مع ما كان سيكون عليه. وهي نتيجة قاسية بشكل خاص إذا أخذنا بالاعتبار ان متوسط دخل المواطن الأمريكي اليوم هو اقل مما كان عليه قبل خمس سنوات.

لذا لم يكن مفاجئاً انه عندما احتاجت مؤسستان ماليتان كبيرتان في أمريكا، هما "سيتي بانك" و"ميريل لينتش"، إلى المال بسرعة مؤخراً، لم تكن هناك سيولة مالية كافية في أمريكا. فقد أدت أسعار النفط المرتفعة والمدخرات المرتفعة في الصين وأماكن أخرى إلى تمركز هائل للثروة خارج الولايات المتحدة، ما اضطر المؤسسات المالية الأمريكية إلى التوجه إلى تلك المراكز(تحديث هناك كارثة مالية تمر بها الولايات المتحدة تسمى أزمة الرهن العقاري)

أسباب القوة الظاهرية للاقتصاد

حتى وقت قريب، بدا مثيراً للاستغراب بالنسبة إلى البعض انه بالرغم من الطريقة الواضحة التي تؤدي بها حرب العراق إلى إضعاف الاقتصار الأمريكي، فان هذا الاقتصاد بدا قوياً. فهل كان ذلك يعني أن هناك شيئاً ما يؤكد صواب تلك المقولة القديمة بأن الحروب نافعة للاقتصاد؟ الجواب

هو أن نقاط الضعف هذه جرى إخفاؤها، بالضبط كما جرى إخفاء الكثير من الكلف الأخرى للحرب بحيث انه لا يمكن رؤيتها بسهولة. فقد جرى إخفاء التأثيرات الاقتصادية الإجمالية عبر سياسة نقدية فضفاضة، وتدفق للسيولة, وضوابط متهاونة. وسمح ذلك لمعدل مدخرات الأسرة الأمريكية بالتدني إلى الصفر، لتبلغ أدنى مستوياتها منذ "الركود الكبير" (في أواخر عشرينات القرن الماضي)، وساهم بزيادة فورة استهلاكية غير مسئولة عبر تشجيع سحب مئات مليارات الدولارات كقروض عقارية. وساعد ذلك، لفترة من الوقت، على أخفاء الكلفة الحقيقية للحرب(ملاحظة (2) أعلاه).

وهذه ليست المرة الأولى التي تحاول فيها إدارة أمريكية حشد الدعم والتأييد لحرب لا تحظى بشعبية بإخفاء الكلف الحقيقية والكلية عن الشعب الأمريكي. كما أنها ليست المرة الأولى التي تعاني فيها أمريكا والشعب الأمريكي جراء ذلك. ففترة التضخم التي مرت بها أمريكا ابتداءً من أواخر ستينات القرن الماضي كانت، جزئياً على الأقل، نتيجة لفشل الرئيس الأسبق جونسون في التعامل كما يجب مع كلف حرب فيتنام وأجراء تعديلات مناسبة في الضرائب والإنفاق. وإذ يبدو أن الوضع الاقتصادي مختلف هذه المرة، وبالتالي فان النتائج الناجمة عن الحرب وتأثيراتها مختلفة، لكنها من نواح كثيرة أكثر حدة.

آثار بعيدة المدى

ليس معروفاً كم سيدوم التراجع أو الانكماش الحالي في الاقتصاد الأمريكي، أو مدى عمقه، لكن المرجح أن يكون أسوأ من أي تراجع مماثل في ربع القرن الأخير، وستكون كلفته هائلة. وحتى إذا بلغ معدل النمو هذه السنة 0¡8 في المئة (حسب توقعات صندوق النقد الدولي)، وبدأ النمو يسترد عافيته السنة المقبلة ليصل إلى 2 في المئة، ويعود في 2010 إلى نمو بنسبة 3¡5 في المئة مثلاً (وهي وتيرة تحسن أسرع مما يتوقع معظم المحللين)، فان الخسارة الإجمالية في الناتج على مدى هذه السنوات الثلاث (إي الفرق بين الناتج الفعلي للاقتصاد وقدرته) ستبلغ حوالي 1¡5 تريليون دولار (أي 1500 مليار دولار)

وفي كل الأحوال، مهما كان غنى أمريكا فأنها لا يمكن إن تهدر 3 تريليونات دولار دون ان يؤثر ذلك على قوتها ويضعف مكانتها على الصعيد العالمي، ويحد من قدرتها على خوض حروب عسكرية متزامنة عبر البحار، وبمستوى حربها في العراق. وإذا بقيت القوات الأمريكية في العراق سنتين اخريتين، فان ذلك سيضيف 500 مليار دولار على الأقل إلى الكلفة الكلية للحرب. ولا بد لكلف الحرب وتأثيرها على الاقتصاد أن تترك آثاراً بعيدة على مجالات حيوية تمس حياة المواطن الأمريكي، مثل الرعاية الطبية ونظام الضمان الاجتماعي والتعليم. (حسب الباحثة الاقتصادية الأمريكية بيلمس فان مبلغ تريليون دولار يمكن ان يغطي توظيف 15 مليون مدرس في المدارس الحكومية، أو تقديم منح دراسية كاملة لأربع سنوات لـ43 مليون طالب أمريكي في الجامعات الحكومية). وسيؤثر خفض الاستثمار المطلوب في التكنولوجيات والعلوم من القدرة التنافسية للاقتصاد الأمريكي. بالمقابل، كان الرابح الأكبر في أمريكا من حرب العراق هو الشركات الكبرى (مثل "هاليبرتون" التي احتكرت عقود إمداد وتموين القوات الأمريكية)، والمجمع الصناعي العسكري، وشركات النفط.

(*) نشره مركز صقر وموجود في الموقع الإلكتروني للمركز.

دراسة - أعدها (إيرك ليفر) و (فيلس بينز)، وأشرف عليها معهد الدراسات السياسية بواشنطن

تتفاوت الآراء وتتباين الأرقام حول الخسائر البشرية الأمريكية في العراق، كما يتحاشى المسئولون الأمريكيون إعطاء تقديرات دقيقة عن التكلفة المالية لتلك الحرب؛ فما هي التكلفة الحقيقية التي تقع على كاهل دافعي الضرائب الأمريكيين جراء الحرب في العراق؛ وهل تقتصر الأرقام على التكلفة المالية المباشرة، أم أنها تتضمن أيضاً التكلفة غير المباشرة على الاقتصاد والسكان؟
بالرغم من أن هذه المسالة لم تثر حتى الآن على نطاق واسع في الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن تقريرين مهمين نشرا مؤخراً، من المرجح أن يدفعا بمسألة تكاليف الحرب إلى معترك النقاش في أوساط الرأي العام، فقد كشفت دراسة - أعدها (إيرك ليفر) و (فيلس بينز)، وأشرف عليها معهد الدراسات السياسية بواشنطن - أن الكونغرس الأمريكي قد صادق حتى الآن على أربع دفعات مالية لتغطية نفقات الحرب على العراق، تبلغ في مجملها 4ر204 مليارات من الدولارات، ويدرس حالياً إمكانية المصادقة على تمويل إضافي بمبلغ 3ر45 مليار دولار لتغطية تكاليف العمليات، إلى حين المصادقة على دفعة تكميلية يرجح دفعها في ربيع عام 2006م.
وقد أنفقت الولايات المتحدة حتى الآن مبلغ 251 مليار دولار نقداً على العمليات القتالية في العراق منذ بدء الحرب، ومازالت تمول الحرب بتكلفة قدرها 6 مليارات من الدولارات شهرياً. وكان (لورانس ليندسي) - الخبير الاقتصادي سابقاً بالبيت الأبيض - قد قدر تكاليف الحرب في مرحلة الاستعداد لها، على أنها ستكلف 200 مليار دولار، إلا أن مسؤولين آخرين بالإدارة الأمريكية رفضوا تلك التقديرات في حينها قائلين إنها تقديرات تتسم بالمبالغة.
وبقسمة تكاليف الحرب - حتى الآن - على عدد سكان الولايات المتحدة، يتضح أن كل دافع ضرائب أمريكي قد تكلف حتى الآن مبلغ 727 دولاراً، مما يجعل الحرب في العراق أكثر الحروب تكلفة خلال ال 60 عاماً الماضية.
وكشفت الدراسة - التي أشرنا إليها آنفاً - أنه منذ بدء الحرب تم استدعاء 000ر210 جندي من قوات الحرس الوطني الأمريكي من أصل 000ر330 جندي. وكانت دراسات حكومية سابقة قد أشارت إلى أن استدعاء نصف قوات الاحتياط والحرس الوطني تقريباً يحدث خسارة في الدخل عند استدعائهم للخدمة. ومن بين الذين تم استدعاؤهم حوالي 000ر30 من أصحاب الأعمال التجارية الصغيرة فقط.
ولم تقتصر عمليات الانتشار لفترات طويلة وضغوط الحرب على الجنود فقط، وإنما امتدت للحياة الأسرية. ففي عام 2004م بلغت حالات الطلاق بين زيجات ضباط الجيش 325ر3 حالة طلاق، بزيادة 78% من حالات الطلاق في عام 2003م عند بدء الاحتلال الأمريكي للعراق، وثلاثة

Friday 15 August 2008

قصة السلفية والتنظيمات الحركية في مصر

بقلم / علي عبد العال

تمثل قضية "التنظيم" إشكالية كبيرة عند دراسة الحالة السلفية في مصر، فبالرغم من اتساع الرقعة التي يشغلها السلفيون المصريون من الخارطة الإسلامية في هذا البلد، إلا أن أصحاب هذا الحيز موجودون بلا تنظيم هرمي ينخرطون فيه ويسير شؤون دعوتهم.

وعلى عكس "الإخوان" و"الجماعة الإسلامية" و"الجهاد" و"حزب التحرير" ليس في أدبيات السلفيين كلمة "تنظيم" على الإطلاق، بل يستعيضون عنها بمصطلح "العمل الجماعي" ويرون ذلك تحصيل حاصل لأن كلمة "جماعي" تُغني عندهم عن كلمة "تنظيمي". أما تعريفهم للعمل الجماعي فهو :"التعاون على ما يُقدر عليه من إقامة الفروض الكفائية مثل الآذان، وصلاة الجماعة، وصلاة الجمعة، والأعياد، والدعوة إلى الله، والقيام على حقوق الفقراء والمساكين، وتعليم المسلمين وإفتائهم بمقتضى الشرع، وسائر ما يقدر عليه من فروض الكفايات".

ولأصحاب هذا المنهج تأصيل شرعي في كافة تفريعات العمل التنظيمي، مثل: البيعة، والسرية، والشورى، ووجود الإمام من عدمه، وأيضاً قضية "المسمى"، وهم يستمدون موقفهم في العمل الجماعي (التنظيمي) من فتاوى وكتابات عدد من العلماء القدماء مثل بن تيمية، والإمام الجويني والعز بن عبد السلام، ومن العلماء المعاصرين ناصر الدين الألباني، وعبد العزيز بن باز، وابن عثيمين، وعبد الرحمن بن عبد الخالق، الذي يقول في كتابه "أصول العمل الجماعي" : "إن أي جماعة تجتمع على مقتضى الكتاب والسنة والالتزام بإجماع الأمة، ولزوم جماعة المسلمين وإمامهم هي جماعة مهتدية راشدة ما دام أن اجتماعها وفق هذه الأصول ووفق قوله تعالى :(وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)" ، ولا يفرق عبد الخالق في تأسيس الجماعات بين حالتي حضور الإمام وغيبته مؤكداً " أن وجود الإمام العام لا يلغي وجود الجماعة الصغرى، وجماعة الدعوة والبر والإحسان.. فإذا كان الإمام العام راشداً قائماً بالحق فإن الجماعة الصغرى سند له وقوة".

وبشكل عام يرى السلفيون جواز ومشروعية العمل الجماعي (المنظم)، بشرط تحقيق المصلحة ودفع المفسدة، وهو ما يلزم عندهم أشياء منها: عدم المصادمة مع الحكومات المدنية، لأن ذلك يجر على الدعوات كثير من المفاسد ويجعل الناس تستهين بدماء المسلمين، والبعد عما يفهم منه خطأ البيعة والسرية حال التمكن من الجهر بالدعوة، فتكون السرية حينئذ مخالفة للمقصود من الدعوة، وعدم التعصب للجماعة بل يكون التعصب للحق.

البيعة والسرية والخروج على الحاكم

وفي إطار الجدال حول "البيعة" المعروفة لدى "الإخوان" و"الجماعة" و"الجهاد"، وقضايا أخرى مثل "السرية" و"الخروج على الحاكم"، يرى السلفيون أن البيعة ليست شرطاً للعمل الجماعي بل يرون إمكانية وجود عمل جماعي بغير بيعة، وكذلك عمل جماعي علني غير سري، وأيضاً من دون خروج على السلطات القائمة، بل ويرون أن هذا هو الأصل والأكثر شيوعاً.

فقد سأل الشيخ ياسر برهامي ـ أحد أبرز رموز السلفية في مصر ـ عن رأيه في البيعة التي تأخذها الجماعات لقادتها؟ .. فأجاب: "أقول بلا مداراة، ولا مداهنة، ولا كذب لمصلحة الدعوة، ولا تعريضاً ـ كما يحاول البعض أن يتهمنا ـ ليس عندنا بيعة، وإنما نرى تحقيق التعاون على البر والتقوى.. وأن هذا لازم لنا من غير بيعة، و(البيعة) أمر حصل فيه نوع من الخلل في الفهم لأن البيعة التي رآها بعض العلماء جائزة على الطاعات أو مشروعة، ظنها الناس أنها بالمعنى السياسي، وتحولت على يد الإخوان من بيعة تشبه البيعة الصوفية إلى البيعة السياسية، وأصبح المرشد بمنزلة الإمام والحاكم على أفراد الجماعة".

ويفرق بين معان مختلفة للبيعة بعضها سياسي "وهذا يكون للإمام الممكن"، لكن هناك بيعة أخرى على الطاعات ويضرب برهامي مثالاً لذلك بالمبايعة على إقامة الصلاة، حيث أن "الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يبايع الناس على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم، وهو أمر مشروع إذ هو نوع من العهد، كأن أقول لك مثلاً: عاهدني بأن تحافظ على صلاة الجماعة، عاهدني على أن تحقق التعاون على البر والتقوى، عاهدني بأن تحافظ على طلب العلم".

وبالنسبة لـ "العلنية" فهي اختيار فكري لدى السلفيين، غير متأثر بالظروف الأمنية أو غيرها لأن "السرية" عندهم مرفوضة تماماً، رغم كونهم يعترفون بأنها (السرية) منهج نبوي، كما كان عليه الحال في دار (الأرقم بن أبي الأرقم) ودعوات الأنبياء في كثير من الأحيان، وقد سأل الشيخ ياسر برهامي عن شعار (السلمية والعلنية) الذي رفعه السلفيون، فقال : "إن الأصل في الدعوة العلن والبيان ونحن في واقعنا لا نحتاج إلى سرية، وقد تمكنا من الدعوة العلنية بحمد الله" وبالنسبة للسرية، يوضح : "فهي سرية وهمية أضر من العلنية"، أما (السلمية) فبها يحصل أنواع من الخير ودفع الشر لأهل الإسلام، لكن "لا يعنى ذلك أن كل أحوال المسلمين في كل مكان وزمان كذلك، فنحن لا نبطل الجهاد بالقوة والسنان وموقفنا واضح من الجهاد في بلاد المسلمين التي نزلها الأعداء كأفغانستان والبوسنة وفلسطين والشيشان والعراق" حسب قوله.

رؤية التغيير تحكم رؤية للتنظيم

يرى السلفيون إنهم ليسوا بحاجة إلى ما اصطلح على تسميته بـ "التنظيم" نظراً لأن جل دعوتهم منصب على العمل التربوي والدعوي داخل المساجد، وبالتالي فوحدة العمل عند السلفيين لا تحتاج إلى قدر كبير من العمق التنظيمي، حيث لا حاجة لأجنحة سياسية وأخرى اقتصادية ونحو ذلك مما "يغري" الأحزاب والجماعات السياسية. ولعل طبيعة العمل السلفي الذي يبتعد عن السياسة ومعاركها، جعل اهتمام السلفيين موجهاً بالأساس إلى تربية الأفراد، ورفع مستواهم العلمي (الديني)، وقدرتهم على رؤية الواقع وقياسه بمقاييس شرعية.

ولعل ما سبق يفسر لنا طبيعة الحركة السلفية وعملها في الإسكندرية؛ إذ كان منصباً بالأساس على نشر المنهج السلفي من خلال الدروس والندوات والدورات العلمية، ومن ثم تحول اسم الجماعة إلى "الدعوة السلفية" رغبة في توسيع المساحة التي يتحرك فيها الدعاة السلفيون والعمل من خلال مساحات دعوية مختلفة مثل أوساط الشباب في الجامعات، وداخل المناطق السكنية.. ولم يتوقف النشاط السلفي في الإسكندرية على الجوانب التعليمية والدعوية فحسب بل تعداه إلى جوانب اجتماعية وإغاثية ككفالة الأيتام والأرامل، وعلاج المرضى، وغير ذلك من النشاطات.

وقد استلزم الانتشار السريع للفكرة السلفية قدراً من السعي نحو ترتيب العمل سواء داخل الإسكندرية أو خارجها، لاسيما مع ازدياد أعداد المنتسبين للدعوة والمتأثرين بمنهجها

إشكاليات العمل التنظيمي

لا يُخفي السلفيون أن العائق الأمني وما قد يجره من اتهامات وملاحقات، كان نصب أعينهم وهم يتخلون طواعية عن العمل التنظيمي، مبتعدين بمنهجهم عن مسلك باقي الجماعات الإسلامية. وهم يعتبرون في ذلك بتجارب تاريخية مأساوية مرت على المجتمع المصري، كانت نتيجتها سيئة على صحوة العمل الإسلامي، ليس في مصر وحدها بل وفي العالم. فهم يعدون العامل الأمني أحد العوامل التي تؤثر في رؤيتهم للتنظيم وإن كان ليس العامل الوحيد.

ولقد كانت للدعوة السلفية في الإسكندرية تجربة عملية في هذا الاتجاه أواخر ثمانينات وأوائل تسعينات القرن الماضي، حين استفز توسعهم الأجهزة الأمنية التي شرعت في التضييق عليهم محاولة لتفكيك الروابط التنظيمية لهذا التجمع الأصولي، وبلغ هذا التضييق ذروته في القضية التي تم فيها توقيف الشيخ عبد الفتاح أبو إدريس ـ قيم الدعوة السلفية (أي مسئولها) ـ والدكتور سعيد عبد العظيم عام 1994، وهي القضية التي تم فيها وقف مجلة "صوت الدعوة" وإغلاق معهد إعداد الدعاة المعروف بـ (معهد الفرقان) أمامهم، وهو الذي أنشأته الحركة وظل شيوخها يشرفون عليه باعتباره أول مدرسة منهجية سلفية لتخريج الدعاة السلفيين.

الدكتور ياسر برهامي نفي أن يكون عام 1994 قد إيقاف جميع أنشطة الدعوة. ويؤكد في تصريحات سابقة له أنه " بقي العمل مع الجامعة والطلائع وهو لم يتم الاعتراض عليه (من قبل الأمن) وظل مستمراً حتى سنة 2002 " وهو العام الذي تم فيه إيقاف العمل في الجامعة والطلائع والعمل خارج الإسكندرية وقد كان السفر ممنوعا للدعاة السلفيين خارج الإسكندرية منذ أواسط التسعينات.

وإلى جانب الحاجز الأمني يذهب السلفيون إلى أن ظروف النشأة لديهم ـ التي تختلف عنها لدى الإخوانً ـ سبب آخر جعلهم لا يفكرون في مسألة التنظيم، فبينما أتاحت نشأة الإخوان القديمة تاريخياً فرصة أكبر من أجل تنظيم صفوفهم وترتيب وظائفهم وواجباتهم والتزاماتهم الإدارية، لم تكن نشأة السلفية الحركية لتهييء جواً مساعداً للتنظيم. وهم يرون أن الواقع الحالي لا يسمح بأي صورة من صور التنظيمات السلفية، في حين تم التعامل مع الإخوان كأمر واقع مع محاولات عديدة لاستئصالهم لا تنجح غالباً، لأن التنظيم عند الإخوان قديم قدم دعوتهم ذاتها.

وفي حين تمثل قضية (السمع والطاعة) عامل رئيس في الانضباط التنظيمي لدى الإخوان، يعول السلفيون على تقديم الدليل (الشرعي)، والنظرة الإسلامية الأصيلة للعلماء والدعاة من حيث احترامهم وتوقيرهم، مما يجعل حبهم وطاعتهم لازم من لوازم التعاون على البر يقوي البناء الروحي بين عناصر الحركة، وإن كان يلغي الارتباط التنظيمي أو على الأقل يضعفه.

حالة دينية لا تحتاج لـ (تنظيم)

يؤرخ جمال سلطان ـ الكاتب والمراقب الإسلامي ـ لفكرة "التنظيم" التي تمثل تراثاً حديثاً تاريخياً للحركة الإسلامية، بحركة الشيخ حسن البنا ـ رحمه الله ـ إذ لم يُعرف التنظيم في التاريخ الإسلامي إلا لدى أصحاب العقائد الجديدة التي كانت تريد منازعة الأمة، ولم يكن ثمة ضرورات أو احتياجات لها حينئذ. أما بالنسبة للدعوة السلفية فهي في نظر سلطان حالة دينية في عمومها تهتم بالأبعاد العلمية والدعوية والتربوية، وهذه لا تحتاج إلى تنظيمات ولا عمل تنظيمي، والسلفيون ليس لهم مشروع حركي ـ كما يرى ـ وليس لهم خبرات تنظيمية، ولا يوجد لديهم أي تفكير في عمل تنظيم في مصر لأنه ليست لهم مشروع سياسي والتنظيم إنما يوجد فقط عندما يكون للجماعة مشروع سياسي أو أجندة سياسية تعمل وفقها.

وبشأن الفارق بين السلفيين وجماعات إسلامية أخرى كـ "الإخوان المسلمون" و"الجماعة الإسلامية" و"الجهاد" في وجود التنظيم الهرمي، يربط سلطان ذلك بوجود المشروع السياسي لهذه الجماعات والتنظيمات متأثرة بخبرات عصرية في هذا المجال.

ومن جهته يرجع الدكتور عمرو الشوبكي ـ الباحث بمركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية ـ عدم وجود تنظيمات سلفية في مصر إلى أن السلفية ظهرت بينما كانت هناك تنظيمات عديدة مؤثرة موجودة على الساحة كالإخوان والجهاد والجماعة الإسلامية، بما يشبه حالة احتكارية لساحة العمل التنظيمي، ومع فشل التنظيمات الجهادية بشكل أساسي رأت السلفية أن هناك مساحات دعوية وفكرية لم تستغل بعد، وأن هناك مجالاً للدعوة الفكرية والانتشار التربوي عبر المساجد بما لا تستفز معه الدولة وأجهزتها الأمنية. وإن لم يفصل الشوبكي بين إشكالية التنظيم لدى السلفيين والسياقات السياسية الحالية والأمنية.


Monday 11 August 2008

اسرائيل تقاتل في جورجيا

بقلم / حلمي موسي

رغم ان الحرب بين روسيا وجورجيا تقع على الحد الفاصل بين اوروبا وآسيا، فإن
إسرائيل موجودة فيها بقوة. فالتعاون الأمني بين تل أبيب وجورجيا تزايد في السنوات
السبع الاخيرة، وتخطى بيع الخبرات الأمنية والتدريب، إلى صفقات السلاح والنظم
التقنية العسكرية، اذ ان إسرائيل رأت في جورجيا »منجما للثراء الأمني«، في حين
رأت جورجيا في إسرائيل مساعدا قويا، خاصة أن وزير دفاعها إسرائيلي الجنسية ايضا.

ومع وزير دفاع كهذا وميزانيات ضخمة للدفاع، اندفع الكثير من الإسرائيليين لملء الفراغ
والاستفادة من الفرصة المتاحة. وتقدر الخبرات والأسلحة الإسرائيلية في جورجيا
بمئات الملايين من الدولارات وقد دخل فيها وزراء وجنرالات إسرائيليون سابقون. وباعت
إسرائيل لجورجيا طائرات من دون طيار وتقنيات عسكرية وأجهزة رؤية ليلية وذخائر.

وفضلا عن ذلك، قامت إسرائيل بتحديث طائرات »سوخوي ٢٥« التي كانت بحوزة
الجيش الجورجي. ولا يقل أهمية عن ذلك قيام إسرائيل بتدريب عدد من كتائب الجيش
الجورجي وخصوصا من سلاح المشاة وإنشاء العديد من وحدات النخبة.

وتحت الضغط الروسي، امتنعت إسرائيل عن تزويد جورجيا بحوالي ٢٠٠ دبابة من طراز
ميركافا تعاقدت على شرائها. كما أن الاحتجاجات الروسية أوقفت إسرائيل عن
الاستمرار في تزويد جورجيا بطائرات من دون طيار.

وكلما اشتد التوتر بين روسيا وجورجيا، تصاعدت الاصوات في اسرائيل ـ ولا سيما من
وزارة الخارجية ـ التي تدعو وزارة الدفاع بان تكون اكثر انتقائية في المصادقة على
الصفقات مع جورجيا خشية اغضاب روسيا. وقال مصدر أمني إسرائيلي لـ»يديعوت
أحرونوت« انه »كان واضحا ان قدرا اكبر مما ينبغي من المنظومات الاسرائيلية الواضحة
في يد الجيش الجورجي ستكون بمثابة خرقة حمراء امام ثور غاضب من جهة روسيا«.

وهذا ما حدث فعلا عند استخدام الطائرات من دون طيار من انتاج »البيت«، حيث اعتبر
الروس ذلك استفزازا حقيقيا. ويقول المصدر الأمني »كان واضحا ان الروس غاضبون.
وان اسقاط ثلاث طائرات من دون طيار في الاشهر الثلاثة الاخيرة، كان تعبيرا عن هذا
الغضب. في اسرائيل، لم يفهم الجميع بأي عصب حساس لمست اسرائيل عندما
زودت بأسلحة متطورة جدا دولة تعاني من علاقات متوترة جدا مع روسيا«.

في نهاية المطاف، تقرر في ايار المصادقة على صفقات مستقبلية مع جورجيا فقط لبيع
منظومات سلاح غير هجومية، مثل المنظومات الاستخباراتية، الاتصالات والحواسيب،
وعدم المصادقة على صفقات لبيع البنادق، الطائرات، القذائف وما شابه.

وأشارت »يديعوت أحرونوت« إلى ان مبيعات السلاح الاسرائيلي لجورجيا بدأت قبل نحو
سبع سنوات في أعقاب مبادرة من مواطنين جورجيين هاجروا الى اسرائيل واصبحوا
رجال اعمال. ويروي مصدر في مجال تصدير السلاح »هؤلاء تجولوا بين الصناعات الامنية
وبين وكلاء السلاح ورووا ان لجورجيا ميزانيات كبيرة نسبيا وانه يمكن بيعها اسلحة
اسرائيلية«.
التعاون العسكري بين الدولتين سرعان ما تطور. وضمن امور اخرى، ساهمت في ذلك
حقيقة ان وزير الدفاع الجورجي، دافيد كيزراشفيلي، هو اسرائيلي سابق يتكلم
العبرية بطلاقة. ويقول المصدر ان »بابه كان دوما مفتوحا امام الاسرائيليين الذين جاءوا
وعرضوا منظومات سلاح من انتاج اسرائيلي. بالنسبة لدول شرق اوروبا، فان الصفقات
في هذه الدولة سارت بسرعة، ولا سيما بسبب الدور الشخصي لوزير الدفاع«.

وطالب المعلق العسكري في صحيفة »إسرائيل اليوم« يوآف ليمور إسرائيل بالحذر من
أن تقع في شرك »هذا النزاع المتفجر« وان تدفع ثمنا باهظا. وشدد على ان الحاجة
تقتضي هذه الأيام من إسرائيل الا تظهر في الصورة إلى ان تنتهي الأزمة وان تطلب
من مستشاريها هناك الانسحاب فورا. وأشار إلى وجوب أن تتعلم إسرائيل الدرس من
الحرب الجارية هناك، »لأن هذا هو الاختبار الحقيقي للأسلحة التي يمكن ان تستخدم
هنا«. ولاحظ ان ثلاثا من بين خمس طائرات من دون طيار من طراز هرمس التي تفاخر
بها إسرائيل أسقطت على أيدي المضادات الصاروخية الروسية
.